أيمن متروك – جدل60 TV (خاص)
في عام 1972، عاشت القاعدة الجوية الثالثة بالقنيطرة لحظات مشحونة بالتوتر والتحدي، حيث تجلى حلم الضباط الشبان “المغرر بهم” بالحرية والتغيير. كانت أرواحهم مليئة بالحماس والتطلعات إلى عالم جديد يفتح لهم أفقاً للبناء والتقدم. لكنها آمال متبخرة، فقد تمزقت حبالها حتى قبل أن تتحقق، حين نسجت محاولة انقلاب في المقصف الصغير نفسه الذي كان يجمع فيه الطيارون المتطلعون إلى الأفق الجديد.
ما كان يفترض فيه يوماً عادياً في برج المراقبة على قمة القاعدة الجوية، تحوّل إلى يوم مشؤوم عندما انطلقت ست طائرات حربية منها باتجاه الشمال، بهدف اعتراض طائرة “البوينغ الملكي” التي تقل الملك وأعضاء حكومته وأفراد من العائلة الملكية.
أحمد الوافي، الذي كان يشغل منصب رئيس العمليات في القاعدة، شهد هذه الأحداث بصدمة واستغراب، ظنّاً منه أنها عملية خفر عادية.
لكن الحقيقة كانت أقسى مما كان يتصور. المخطط الذي ترأسه الجنرال محمد أوفقير والكولونيل محمد أمقران ككان يتزامن مع بث الموسيقى العسكرية على أمواج الإذاعة الوطنية، إشارة إلى إعلان الجمهورية بنجاح محاولة الانقلاب. المخطط كان يهدف أيضاً إلى تجميد الجيش والسيطرة على حركة المواطنين.
في السماء، كانت الطائرات الحربية تنفذ جولات استطلاعية للبحث عن الطائرة الملكية، وسط تواصل المحادثات العصيبة بين الطيارين داخل برج المراقبة. في تلك اللحظات، تبدو القاعدة الجوية مكاناً يشع بالحياة والانتظار، لكن خلف الكواليس كان يُحاكي القدر مآساة وتضحية تتخفى خلف المشهد العسكري البارز.
بعد هذه المحادثة القصيرة التي جمعت الطيارين فيما بينهم، أخذ الكولونيل أمقران جهاز الاتصال اللاسلكي وبدأ يتحدث مع الكومندو الكويرة: “أين أنتم؟”
كويرة: نحن في المنطقة المعلومة كولونيل… بالقرب من طنجة.. وفي هذه الأثناء لا وجود لأي طائرة في الأجواء…
ساد الصمت بعد ذلك. وبعد لحظات، سيصرخ بوخالف على الساعة الرابعة وعشرين دقيقة: “طالهيو..طالهيو”، وهي عبارة أمريكية تعني أن الهدف جاهز. طائرة “البوينغ” الملكية أصبحت مكشوفة الآن، وهي تحلق في سماء تطوان.. سنسمع بعد ذلك، قائد الطائرة الملكية، محمد القباج، وهو طيار ماهر كان في سلاح الجو، قبل أن ينتقل إلى الطيران المدني، يتحدث عبر جهاز الراديو اللاسلكي: “طائرات F5…من أنتم؟.
لم يهتم أحد بالنداء وفهم الملك بسرعة بأن الأمر ليس طبيعياً وخارج المألوف، قبل أن يعود ليصرخ: “ابتعدوا ابتعدوا جلالة الملك لم يطلب الحراسة…أُعِيدْ…أخلوا المكان.
“أخلوا المكان أُعِيدْ ابتعدوا الملك لم يطلب الخفر” يُردد القباج بنبرة غاضبة. لكن ما هذا؟ إنهم يُجَهزون القذائف سنتعرض لهجوم… الطائرات الحربية تستعد للقصف”… كانت تصلنا كلمات قائد الطائرة الملكية بشكل متقطع، في برج المراقبة، كنا في حالة ذهل ورعب شديدين، أمقران يَحُوم في المكان بخطوات متثاقلة، لا يستطيع أن يتحكم في نفسه”.
“لقد أصابوا الطائرة الملكية…لقد دمَّرُوا المحرك”… يتابع القباج الذي يقود الطائرة الملكية في ارتفاع متوسط، هنا بدأ كل شيء جلياً، نحن أمام انقلاب نعيش تفاصيله ثانية بثانية.
“الأوغاد. لقد دمَّرُوا المحرك الثاني. نار نار في الطائرة” تتوالى صيحات القائد القباج، “سنسقط… سنصطدم مع الأرض”.
داخل برج مراقبة بقاعدة القنيطرة، طلب الكابتان العربي من الكولونيل أمقران إرسال طائرات حربية لإنقاذ حياة الملك، والاتصال بقاعدة سلا لوضعها في الصورة، ليرد عليه الكولونيل: “اصمت، هذا شأن الضباط”، “على الجميع أن يظل في مكانه…أنا قائدكم…أنا الذي أتحكم هنا…فهمتم؟
سيبدأ كويرة بإطلاق النار. لكن المفاجأة الكبرى أن مدفعه تَعطَّل. كان صوتُه يُسْمَعُ على الراديو، وهو يشتم آلته التي خذلته؛ لأنها ربما لم تشحن جيدا على الأرض، كما سيصرِّحُ فيما بعد، قائد سرب الطائرات صلاح حشاد، في مذكراته.
أنقذ بوخالف وزياد، اللذان علما بالعملية الانقلابية وهما في السماء، الموقف بإطلاق النار على أحد محركات البوينغ الثلاث.
عندما عجز كويرة عن تشغيل مدفعه الرشاش، قرر القيام بهجومٍ انتحاري على البوينغ الملكي، على شاكلة “الكاميكاز الياباني”.
“وداعاً يا أصدقائي سأَمُوتُ من أجل الوطن”، يقول كويرة في جهاز الراديو، قبل أن يقفز بمقعده من الطائرة، ليسقط عبر “الباراشوت” في منطقة قريبة من سوق الأربعاء الغرب، حيث سيلقي عليه الدرك الملكي القبض، وتنجو البوينغ من عملية الاصطدام وتواصل تحليقها في السماء.
بعد دقائق، سيعود بوخالف إلى مهاجمة الطائرة الملكية، التي بدأت تفقد بعض علوها.
وفي هذه الأثناء، سيلقي الطيار الريفي بخزانه الرئيس المليء يالكيروزين على “البوينغ”، دون جدوى، كان يريد أن يشعل النار في جسم الطائرة الملكية، التي بدأت تحلق على علو منخفضٍ فوق أرضية قاعدة القنيطرة.
وما هي إلا لحظات حتى ظهرت الطائرة الملكية وسط سحب من الدخان الأسود تقترب من الأرض، كانت تبدو كطائر جريحٍ يسقط من السماء. بدا الكولونيل أمقران مذهولاً لنجاة “طائرة الملك”، كيف لـ6 طائرات حربية مُعدة بأحدث التقنيات وبالقذائف الصاروخية أن تفشل في إسقاط طائرة مدنية، يقودها طيار مُحنك خَبرَ سلاح الجو لأزيد من عشرين سنة.
واصلت الطائرة تحليقها نحو مطار الرباط، مخلفةً من ورائها سرباً من الدخان سرعان ما تبدى مع رياح الصيف الحارة.
في مطار رباط سلا، كانت هناك نخبة من الوزراء والضباط السامين، من بينهم إدريس بنعمر، الجنرال المعروف في مغرب “السبعينيات”، سيصير بعد وفاة أوفقير الرجل الثاني في الجيش، تنتظر الملك الذي غاب 20 يوماً عن المغرب، وهي تجهل كل شيء عن المحاولة الانقلابية، كانت الاستعدادات على قدم وساق. فرق من الجوق الوطني تنشد أغاني حماسية، وأفراد من الحرس الملكي تُؤمِّن المكان، تظهر حيناً وتختفي حيناً.
بالعودة إلى قاعدة القنيطرة الحربية، كانت الأحداث قد تجاوزت الكولونيل أمقران، الذي بدا مستسلماً أمام أمر الواقع، وبالرغم من أنه فشل في إسقاط الملك من السماء، سيُعاود الكولونيل المحاولة من جديد، لكن هذه المرة، سيطلب من الطيارين بوخالف وزياد، اللذين حطّا لتوهما بطائراتهما في مدرج القاعدة الجوية، الالتحاق بمطار سلا، من أجل تنفيذ ضربات جوية تستهدف هذه المرة الموكب الملكي، ولم يتردد الطياران في الأمر وقاما بتسليح الطائرات من جديد قبل أن يتوجها صوب الجنوب باتجاه العاصمة الرباط.
وفور وصولهم مطار سلا الرباط، قام الطيارون بإطلاق النار على المدنيين، وتوفي العشرات في حادث مأساوي، ثم بعد ذلك قنبلوا قصر الرباط بعنفٍ؛ لكن دون جدوى، فقد سلك الملك طريقاً مغايراً إلى قصر الصخيرات بدل قصر الرباط.
وفي المساء نفسه، وصل أوفقير إلى قصر الصخيرات الصيفي، حيث وجد في انتظاره الملك الحسن الثاني مرفوقاً بمحمد الدليمي، الذي سيخلف أوفقير على رأس وزارة الداخلية، ثم مولاي حفيظ العلوي، الحاجب الملكي الذي سيشكل سداً منيعا للحيلولة دون الوصول إلى القصر.
مات الجنرال أوفقير في وقت ما خلال ليل 16 و17 أغسطس، فهناك روايات متعددة عن مصيره، بعضها يشير إلى أنه قد انتحر بينما تشير أخرى إلى أنه قد نُحر وقال البيان الرسمي أنه انتحر بعد منتصف الليل فيما كان قد اِعتُبِرَ لبعض الوقت الرجل صاحب الولاء الشخصي الكبير للملك، وقد أنهى حياته بسبب أنه فشل في المعرفة المسبقة بهجوم الصخيرات ومن بعد اختياره لطيارين لم يكن يعرف عدم ولائهم. ومن بعد أيضا، وحوالي الساعة 00:02 وبعد أن رأى الملك الرائد كويرة الذي قاد الهجوم والذي تحطمت فيه طائرته F-5، أصبح على قناعة بأن رواية أمقران صحيحة، وأن أوفقير مذنب في تدبير الإنقلاب، فيما بدا أن التحري والتحقيق اللاحق مع الطيارين الآخرين قد أكد كل ذلك. دُفِنَ أوفقير في اليوم التالي باِعتِبَارِه منتحرًا، بلا صلاة، في قريته بوذنيب في النواحي الجنوبية لجبال الأطلس.
من جانبه وصف الحسن الثاني المؤامرة بأنها حادث عرضي فيما اعترف علنا بأنها تعبر عن فشل أساسي في الحياة السياسية والاجتماعية بالمغرب. وإلى ذلك دعا للوحدة الوطنية، مشيرا إلى نواياه نحو سيطرة حاسمة على الجيش بتولّي قيادته المباشرة بنفسه، مع الاستمرار بحكم شبه دستوري كما مثله دستور مارس 1972. عرف الجيش عملية تنظيف كبيرة باستثناء القوات التي لا يتطرق الشك لولائها وهي الدرك الملكي والقوات المساعدة (المخازنية)، وهي قوات الدعم التقليدية للنظام العلوي.
قبض على الطيارين وعلى من بقي على قيد الحياة من المشاركين في المحاولة الانقلابية وعلى رأسهم قائد سلاح الطيران وقائد قاعدة القنيطرة الجوية وأعدم الكثير من الطيارين والضباط. وحكم على الغالبية بالسجن عشرين عاما قضوا منها ثمانية عشر عاما في سجن تازمامرت.
اعترف أمقران أمام المحكمة أنه «حاول القضاء على الملك وتآمر على النظام» ثلاثة أشهر من قبل، كانت الأحكام ثقيلة ونهائية، اقتيد في 13 يناير 1973 اثنى عشر طيارًا هم (المقدم محمد أمقران، المقدم الوافي كويرة، عبد القادر زياد، حميد بوخالف، عبد العالي المهدي، أحمد بلقاسم، العربي بينوا، الطاهر بحراوي، عبد الرحمان كمون، الحاج العربي، اليزيد ميداوي)، إلى شاطئ شليحات قرب القنيطرة، حيث أعدموا رميا بالرصاص، و 35 ودعوا بالسجن المركزي بالقنيطرة، وثمانية أشهر لاحقا أُلقي بهم في معتقل تازمامارت، أما 117 من الضباط الآخرين فقد تمت تبرئتهم.
المصادر :
• “Morocco: Attempted Coup d’État, 1972.” Encyclopaedia Britannica.
• Bennison, Amira K. “The 1971 and 1972 Moroccan Coup Attempts Reconsidered.” The Journal of North African Studies, vol. 24, no. 4, 2019, pp. 623-643.
• Pennell, C. R. “A Clash of Nationalisms: Moroccans in France Before 1914.” The Maghrib in Question: Essays in History and Historiography, University of Texas Press, 2014.
• The memoirs of former Captain Ahmed Al-Wafi.